
الجمارك المصرية بين التاريخ وأفاق المستقبل..بقلم المهندس مدحت القاضي
في لحظة فارقة من عمر الاقتصاد المصري، تقف الجمارك عند نقطة التقاء بين الحاضر المزدحم بالتحديات والمستقبل المليء بالفرص. فهنا، على بوابات مصر البحرية والجوية والبرية، تتجسد أول خطوط الدفاع عن الاقتصاد الوطني، وفي ذات الوقت تُفتح النوافذ التي تهب منها رياح التجارة العالمية.
القانون الجديد… لغة الإصلاح
حين أقر المشرّع المصري قانون الجمارك الجديد رقم 207 لسنة 2020، لم يكن الأمر مجرد تعديل تشريعي، بل إعلانًا عن نية الدولة في تحديث بنيتها الجمركية لتواكب إيقاع العالم. ومع اللائحة التنفيذية رقم 430 لسنة 2021، دخلت المنظومة في مرحلة التطبيق العملي: تبسيط الإجراءات، تقليص زمن الإفراج، وتعزيز الشفافية عبر النافذة القومية الموحدة التي جمعت الجهات الرقابية في منصة رقمية واحدة.

النافذة الموحدة… بوابة العصر
هذه المنصة ليست مجرد مشروع ميكنة، بل هي أداة لإعادة صياغة العلاقة بين المستورد والمصدر من جهة، والدولة من جهة أخرى. فالبيانات أصبحت تقدم قبل وصول البضائع، والمستندات تراجع إلكترونيًا، والزمن الذي كان يستهلكه الإفراج الجمركي أصبح أقصر، ما انعكس على تخفيض التكلفة وزيادة القدرة التنافسية.
المستخلصون ووكلاء الشحن… المستشارون الخفيون
في قلب هذه المنظومة، يقف المستخلص الجمركي ليس فقط كمنفذ للإجراءات، بل كمستشار يعرف تفاصيل القانون ويقرأ ما بين سطوره. وإلى جواره، يلعب وكيل الشحن دور المرشد اللوجستي، يربط بين المصدر والمستورد وشبكات النقل البحري والجوي، ويقدم المشورة حول أنسب الموانئ وأفضل خطوط النقل. هؤلاء هم “مترجمو” لغة التجارة العالمية، والذين بدونهم يفقد التاجر بوصلته.
الصراعات الجيوسياسية… موجات تضرب الشواطئ
لكن التجارة لا تجري في مياه هادئة دائمًا. فالحرب في أوكرانيا، والعقوبات الدولية، والتوترات في البحر الأحمر، كلها موجات عاتية تضرب شواطئ الاقتصاد المصري. أسعار الشحن تتقلب، وخطوط الإمداد تعاد رسم خرائطها، والجمارك مطالبة بالمرونة الكافية لتأمين الحدود دون خنق حركة التجارة.
الاستعلام المسبق… الحارس على البوابة
ومن بين الأدوات التي عززت أمن الحدود، جاء نظام الاستعلام المسبق عن الشحنات، الذي يسمح للسلطات بفحص المخاطر قبل أن تلامس البضائع أرض الميناء. إنه بمثابة حارس يقف على البوابة، يفتح للمصرح لهم بالدخول، ويوقف ما قد يهدد صحة المواطن أو أمن البلاد.
التدريب… استثمار في العقول
هنا يبرز دور شعبة خدمات النقل الدولي واللوجستيات بالغرف التجارية، التي تدرك أن القانون والتكنولوجيا بلا كوادر مؤهلة يظلان أدوات بلا روح. فبرامج التدريب والتأهيل التي تنظمها الشعبة ترفع من كفاءة المستخلصين ووكلاء الشحن، وتغرس فيهم إتقان التعامل مع النظم الرقمية، وفهم اللوائح، وإدارة المخاطر.
الذكاء الصناعي… القادم على الطريق
المستقبل يلوح بتقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات الضخمة، حيث يمكن للنظام الجمركي أن يتنبأ بالمخاطر، ويحدد الرسوم بدقة، ويدير التدقيق اللاحق بكفاءة غير مسبوقة. حينها، لن تكون الجمارك مجرد إدارة تحصيل، بل مركز قيادة يوجه حركة التجارة الوطنية في زمن العولمة.
خاتمة… التوقعات والرهانات
الاقتصاد المصري ينتظر من الجمارك أن تكون حامية للحدود، وميسرة للتجارة، وراعية للنمو. وبين مكاتب المستخلصين، وأجهزة الفحص، وشاشات المراقبة، تتشكل صورة جديدة للجمارك المصرية: صلبة أمام المخاطر، مرنة أمام الفرص، مستعدة للمستقبل.
كاتب المقال
رئيس شعبة خدمات النقل الدولي واللوجيستيات بالغرفة التجارية بالإسكندرية
وأحد خبراء النقل الدولي واللوجيستيات فى مصر والوطن العربي